[تنشر جدلية بالاشتراك مع مجموعة الـدكتافون ومؤسسة "آرت-ايست" نصوصاً تتناول الحق في الوصول إلى الشاطىء في العالم العربي تحت عنوان "من هنا البحر". نشرت هذه النصوص باللغة الانكليزية على موقع آرت-ايست. تنشر سلسلة "من هنا البحر" تباعاً على موقع جدلية خلال الأسبوع القادم.]
تقسم منطقة الرمل الجنوبي، وهي منطقة فقيرة في جنوب مدينة اللاذقيّة، الى عدّة أقسام، أربع منها يقع على خط الساحل الجنوبي، وهي من الشرق إلى الغرب: الشاليهات والتي تحوي مجمع مساكن عسكرية، ومخيم طلائع البعث الذي يحتضن فعاليات معسكر الطلائع الصيفي لطلاب المدارس الإبتدائية، إضافة إلى مخيم الرمل الفلسطيني، وحي مسبح الشعب في أقصى الغرب.
لقد تمتع معسكر طلائع البعث قبل بداية الثورة السورية بعلاقة وطيدة مع سكان المناطق المجاورة، وخصوصاً سكان مخيم الرمل الفلسطيني المجاور وذلك بسبب الإتصال المباشر ما بين شاطئيهما الرمليين كامتداد لبعضهما البعض من جانب، والى استعمال المعسكر بأشكال ووظائف مختلفة بما تقتضيه الظروف من جانب آخر.
والمعسكر هو عبارة عن منطقة خضراء واسعة مغلقة جزئياً كما هو حال شاطئها الجنوبي، وتحيط به الأسوار من الجهات الثلاث المتبقية. ومع ذلك يحتل المعسكر ذكريات مميزة لدى العديد من سكان الرمل الفلسطيني وخصوصاً أولئك الذين تمكنوا من دخوله يوماً.
لم يدخله هؤلاء كطلائع مشاركين في المعسكر الصيفي وإنما دخلوه لكونه البديل الوحيد كمساحة خضراء هم في أمس الحاجة إليها. فلقد كان المعسكر بالنسبة لهم مقصداً للراحة أو العمل. يقول أحمد وهو أحد السكان السابقين للمخيم:
"قبل الأحداث كان معسكر الطلائع مانو منطقة أمنية، والشط اللي قبالو ياما سبحان فيه، وياما أنا وصغير فايت مع راعي الغنم عمعسكر الطلائع أو مع أبوي وقت كان يحط النحل، أو فايتين لعبانين طابة. أبوي من زمان عندو خلايا نحل. كان يحطهم بالمعسكر لإنو كان فيه ورود وهيك شي. وكان يترك الخلايا خلال القطف لأنو بدهم شي يتغذوا فيه. الراعي كان يترك غنماتو بالمعسكر وهو كان عايش بالمخيم قريب عالمعسكر. ضلّوا سنييين عهالشي."
يبتسم أحمد و يضيف:
"ما كانو يسمحوا لمين ما كان يفوت. كان زمان اللي بيعرف حارس البوابة يفوت واللي ما بيعرفو ممنوع".
وهكذا شكّل الإغلاق الإنتقائي والإستخدام المتقطع لمعسكر الطلائع علاقته مع المخيم الفلسطيني، تلك العلاقة التي وصلت أوجها حين رست القافلة البحرية "فيفا بالاستينا 5" في ميناء اللاذقية محملة بالمساعدات الإنسانية وعلى متنها ثلاثمئة وستين ناشطاً من أجل كسر الحصار الإسرائيلي على قطاع غزّة، وكان ذلك في تشرين الأول عام 2010. حينها استضاف معسكر الطلائع فريق القافلة حتى مغادرته باتجاه ميناء العريش في مصر كما فُتح للعائلات الفلسطينية لحضور نشاطات مختلفة فيه وشهد المخيّم وقتها أيّاماً من الأمل والإثارة. لقد تغيّر وجه الحياة كلّياً لدى سكان مخيم الرمل الفلسطيني في هذه الأثناء حيث تفاعلوا مع الناشطين الزوار في مخيمهم وفي المعسكر على حد سواء.
يوضّح محمد وهو أيضاً أحد السكان السابقين للمخيم ومتطوع مرافق للناشطين قائلاً:
"صار الناشطين يتجولوا بالمخيم دائماً، ويدخلوا عبيوت الناس، وأهل المخيم يعزموهن. الولاد كانوا كتير مبسوطين، يعني عادي أجانب مناصرين لقضيتنا ورايحين عفلسطين. فعملياً الضحكة كانت مرتسمة عوجوه كل ولاد المخيم وكلن صاروا بدّن يتعلموا إنكليزي ليقدروا يحكوا معن وكلن بدّن يتصوروا وكلّن بدّن يعزموا الناشطين."
بعد شهور قليلة، اكتشف سكّان الرمل الجنوبي من فلسطينيين وسوريين الوجه القبيح لمعسكر الطلائع والذي لطالما بدا كمنطقة لطيفة مجاورة على شاطئهم. بل أنهم أُنذِرُوا بأنّ بحرَهُم هذا قد لا يحمل لهم من البعيد سفناً للفرج فحسب. فبعد مشاركتهم في الثورة السورية حصلت واقعة هامّة كانت كفيلة بتغيير ملامح شاطئ رملهم الجنوبي وكان ذلك في جمعة العشائر. يفسّر أحمد قائلاً:
"أول شي كانت وقتها أكبر جمعة بتطلع بالرمل مقارنة باللي قبلها. كانت الأعداد شي 3 آلاف، التمّوا بحارات السورية ودخلوا عالمخيم من بدايتو الغربيّة. مشيوا الشارع الطويل الأولاني، صاروا عند الزاوية اللي بدخلوا فيها عالبحر، لفّوا، وبعدين طلعوا عسطح مدرسة يوسف نداف تعيت البنات ومزّعوا صورة بشار وحافظ. هالأسطوح صاير مكشوف عأسطوح المعسكر اللي صاير وراه مباشرة، فطلعوا العساكر وبلشوا قواص. الناس انرشّت بالمدرسة، وفيه منهم بالشارع، قبال المعسكر، في ناس استشهدت عالشارع الموازي للبحر. استشهدوا 13 واحد غير الإصابات. طبعاً وقتها كانت تتسمى مجزرة فظيعة هيك أرقام. يوم جمعة العشائر 10-6-2011 كان أول يوم بتظهر فيه البوارج الحربيّة عشطّ الرمل."
عند هذا المنعطف تم جلب تعزيزات هائلة إلى معسكر الطلائع ليتم تحويله إلى أكبر قطعة عسكرية في مدينة اللاذقية، كما تم تحصين المئات من الجنود بعتادهم الثقيل إضافة إلى المدفعيّة والدبابات في الموقع. وهكذا أصبح معسكر الطلائع نقطة الإنطلاق لجميع الإنتهاكات في المدينة وخطها البحري. أحاطت الحواجز بالمعسكر، في حين اعتلى القناصة أسطحته وأبراج المراقبة. تُعَدُّ الزاوية الجنوبية الغربية للمعسكر نقطة ضعف بحكم علاقتها مع البحر، فتم تخصيص قنّاص لتأمينها من أي تسلل ممكن. قطّعت الحواجز والقنّاصين أوصال ساحل الرمل الجنوبي لمحاور محددة وتم احتلال بناء عام عند كلّ نقطة.
في 13/08/2011 قام الجيش السوري بحصار المنطقة من جميع الجهات: 3 جبهات برية إضافة إلى الخط البحري وقد أُفِيدَ بأنّ زوارقاً حربيةً عديدة كانت قد لعبت دوراً في الحصار.
في البداية تم توجيه دعوات الإخلاء من قبل قوات الإقتحام، فغادر آلاف السوريين منازلهم إضافة إلى ما يقارب الخمسة آلاف لاجئ فلسطيني بحسب تقارير الأونروا. في صباح 14/08/2011 قامت القوات البرّيّة باقتحام الرمل الجنوبي من المدخل الشرقي لمخيم الرمل الفلسطيني بتغطية نارية من الزوارق الحربية لسلاح البحرية السوري.
يشرح لنا أحمد:
"طلعت الزوارق الحربية من المينا بس الواضح للناظر انهم جايين من بعيد وبقربوا شوي شوي عالشط. قديش المسافة ما بعرف بس قرّبوا كتير."
لقد توقّف العامّة عن ارتياد شاطئ الرمل الجنوبي وخصوصاً شاطئ المخيم الفلسطيني المحاذي للمعسكر خلال فترة الإعتداء العسكري هذه وبعدها. بل إن الناس لا زالوا يتلافون القسم الشرقي من الشاطئ لاتصاله المباشر بالمنطقة العسكرية حتى اليوم. وقد تم تسجيل تراجع كبير في النشاطات الحياتيّة هناك حيث أصبح كلّ من السباحة والصيد، بل حتى الجلوس على الشاطئ، أنشطة غير آمنة خلال تلك الفترة وما يقارب ثلاثة أشهر لاحقة. كما تمّت إزالة أحد المقاهي حيث اعتاد الناس الاستمتاع بأوقاتهم الصيفية على الشاطئ الرملي في المنطقة.
يفسّر أحمد أكثر قائلاً:
"إنّو بعد الاقتحام رجعت الناس عبيوتها بعد 10 أيام تقريباً وصارت الناس تخاف تصيد أصلاً وما حدا يسترجي يقرب عالبحر إلا نادراً. ضلّت الشغلة عهالحالة شي 3 شهور لحد ما بلّش شوي شوي يرجع الصيد، بس برضو فيه ناس تخاف. وأحياناً يمنعوه لفترات معينة لكن يحظر الصيد والتجول في المنطقة المقابلة لمعسكر الطلائع نتيجة لإنّو ما إلو حيط مسكّر وممكن أي حدا يفوت منّو."
لقد ظهرت الزوارق الحربية التابعة للنظام السوري بشكل متكرر على ساحل الرمل منذ 29/08/2013 وذلك بعد الإعلان عن ضربة عسكرية دولية وكان لذلك أثر على نشاطات السكان المتعلقة بالبحر.
منذ يومين، في 9/9/2013 تحديداً، كان شاب فلسطيني مبحراً بقارب صيده - قاربَ صيدٍ عاديٍّ لا أكثر - واقترب خطأً من شاطئ المعسكر فأطلق القنّاص النار عليه. هو الآن جريح، لا أعلم شيئاً عن إصابته ولكنهم أخبروني أنها في الخاصرة.
صياد مصاب في قاربه، قنّاص، شاطئ رملي مهجور في الصيف، ساحل مُقطّع الأوصال، هجوم لقوات البحرية: هي جميعاً صور واقعية من شاطئ الرمل الجنوبي. إلا أنها جميعاً ستبدو مزيجاً من الواقع والخيال لأولئك الذين لم يعيشوها أحداثاً وإنما عاشوا المكان فحسب. على الرغم من كوني في معسكر الطلائع والشاطئ المجاور له عام 1996، إلا أنني غير قادر على إدراك هذه الأحداث بكثافتها. يمكنني التفكير بأني كنت في فريق درعا لكرة السلة وأني اشتركت مع فريقي في بطولة الطلائع في ذات المعسكر، ولكني غير قادر على تصوّر الدبّابة أو القنّاص في ذات المشهد. ومن السهل عليّ تذكر متعتي وقفزاتي طواعيةً مع الموج الدافئ بل وغرقي و صياحي بصوتي الطفولي حينها، إلّا أني لا أقدر على تخيل رصاصة تمر تماماً من هناك وتصيب البحّار في خاصرته، بعد سبعة عشر عاماً. عندما تلقينا هزيمتنا الثانية وكان ذلك في المباراة النهائية أمام فريق دير الزور ذهبنا ثانيةً إلى البحر. أذكر الشاطئ الرملي مليئاً بالأطفال والعوائل. هل رأيتُ أحمد حينها سابحاً في المتوسّط؟
من سخرية القدر أنهم لم يُحاصَرُوا في مخيمهم من قبل الزوارق الحربية فقط بل أنهم أُنزِلوا من قوارب المهاجرين في مياه الإسكندرية أيضاً. لقد وُئِدَت أحلامهم مرّتين أمام بحر الموت هذا. في 26/9/2013 اعتقلت السلطات المصريّة أربعاً من السكان السابقين للمخيم من ضمن ما يقارب التسعين فلسطينياً فرّوا من عنف النظام السوري إلى مصر ودفعوا كل ما ملكوا ليهاجروا على تلك القوارب نحو السواحل الإيطالية. بعضهم مات غرقاً و بعضهم الآخر وصل على متن قوارب اخرى.
اليوم، في الثاني من تشرين الأول 2013، كتب لي أحمد ذلك الشاب الفلسطيني في شتاته الثاني:
"أنا بطريقي على جزيرة بجنوب إيطاليا. من هناك رح أطلع ميلان أو روما وبعدين عالنروج أو عالسويد. رح أرد كل ما أقدر."
أحمد في البحر الآن عابراً مياهاً أعمق في طريقه لإيطاليا على متن قارب حظّه، آملاً ألّا يشهد المزيد من قوارب الموت في حياته.